بسم اللّـه الرحمن الرحيم

الحمد للّـه رب العالمين، أمر بإقامة العدل بين الناس، فقال: إِنَّ اللّـهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَـٰنِ (النحل: 90) ونهى عن مجانبته ولوكان مع الأعداء، فقال: وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ (المائدة: 8).

والصلاة والسلام على سيدنا محمد المبعوث رحمة للعالمين، أرسله اللّـه بالبينات ليقوم الناس بالقسط، وعلى آله وصحبه الذين ساروا على نهجه واقتفوا أثره فى نشرالعدل بين الناس أجمعين.

صاحب الجلالة الملك عبد اللّـه الثانى ملك المملكة الأردنية الهاشمية:

أصحاب السمو والمعالى والسماحة والسعادة والفضيلة:

أيها الإخوة والأخوات:

السلام عليكم ورحمة اللّـه وبركاته،

فيسعدنى بادىء ذى بدء أن أتقدم بالشكرالجزيل والامتنان العظيم إلى صاحب الجلالة الملك عبد اللّـه الثانى، وحكومته الرشيدة، وشعب الأردن الشقيق لما لقيته أنا والوفد المرافق لى من ترحيب حار وضيافة كريمة، منذ أن قدمنا إلى هذه البلاد الشقيقة .

كما يسعدنى أن أشكر معالى الدكتورأحمد محمد هليل، قاضى قضاة الأردن، لدعوته الكريمة لى للمشاركة فى هذا المؤتمر الدولى الهام بتوجيه سام من جلالة ملك المملكة الأردنية الهاشمية حفظه اللّـه .

أيها الإخوة الأفاضل والعلماء الأجلاء:

إن هذا المؤتر الهام ينعقد فى هذه المدينة التاريخية عمان فى وقت اشتدت الحاجة فيه إلى كشف اللثام عن الوجه الوضاء للقضاء الشرعى الإسلامى، ونزاهته، ودوره فى استتباب الأمن والأمان والطمأنينة فى المجتمعات الإسلامية، وإقامة العدل بين الناس كافة.

إن القضاء فى الإسلام يمثل صورة مشرقة فى التراث الإسلامى، ويتبوأ مكانة رفيعة فى الشريعة الغراء، وتتمثل فيه الصورة الحقيقية للتطبيق الصحيح لأحكام اللّـه تعالى. وقد قام القضاء الإسلامى فعلا بهذه الوظيفة المقدسة فى تاريخه الطويل، فكان مفخرة للأمة الإسلامية، حتى صارمضرب المثل فى النزاهة والحياد والعدل والقسط.

لذلك ترنو أنظار من يريدالخير لهذه الأمة إلى تاريخ القضـاء فى الإسلام لاستعادة صورته الأصيلة فى بناء الحاضر والمستقبل، وإعادة أمجاد الأمة، وتحقيق العزة والكرامة للجماعات والأفراد، وتأمين حماية حقوق الإنسان، وإقامة العدل فى الأرض، وتنفيذ أحكام السماء.

إن القضاء الإسلامى يهدف إلى إقامة العدل، وحفظ الحقوق والأموال والأنفس والأعراض، وحماية الحقوق العامة، وصون القيم والأخلاق، ومنع العدوان والظلم والبغى بمختلف أشكاله وصنوفه. قال ابن القيم رحمه اللّـه : “إن اللّـه أرسل رسله، وأنزل كتبه ليقوم الناس بالقسط، وهوالعدل الذى قامت به الأرض والسماوات، فإذا ظهرت أمارات العدل، وأسفر وجهه بأى طريق كان، فثم شرع اللّـه ودينه”.

وغاية الشريعة أن يمارس كل إنسان حقه، ويحافظ على حقوق الآخرين، فأقامت الحدود بينهم، وتكفلت بوضع الضوابط لاكتسابها واستعمالها والتصرف فيها، بحيث لايطغى فرد على آخر، ولايسىء أحد إلى حق غيره، ولايتجاوزالحد فى حقه، ولايتعسف فيه، وبذلك يعرف كل إنسان ماله وماعليه، وتتحقق السعادة والطمأنينة والأمن والأمان فى الحياة.

أيها السادة:

لقدكان خاتم الأنبياء والرسل سيدنا محمد صلى اللّـه عليه وسلم قاضيا، ومفتيا، وقائدا، وداعيا إلى اللّـه بإذنه وسراجا منيرا. وكان صلى اللّـه عليه وسلم هو المرجع الأول لحل جميع الخلافات التى نشأت فى مجتمع المدينة المنورة، وبين الفئات والطوائف والأديان، وحكم صلى اللّـه عليه وسلم فى الدعاوى والخلافات العديدة فى الحدود والقصاص، وفى الأموال والحقوق، وفى المعاملات والأحوال الشخصية، وفى الديون والأراضى والمياه والعقارات والمواريث وغيرها. وفى الوقت ذاته كان الرسول صلى اللّـه عليه وسلم يختارأكفأ أصحابه للقضاء والولاية، ويزودهم بالتوجيه والنصح، ويرشدهم إلى منهج الحق والعدل.

كانت ولاية القضاء فى عهد الرسول صلى اللّـه عليه وسلم جزءا من الولاية العامة، فكان الرسول صلى اللّـه عليه وسلم يجمع بين الولاية التشريعية، والتنفيذية، والقضائية، والرقابة والتفتيش، وكان معظم قضاته صلى اللّـه عليه وسلم فى الغالب يجمعون بين السلطة التنفيذية والسلطة القضائية، ولم يفصل بين القضاء وبقية الولايات إلا فى القليل النادر.

أما القضاء فى عهد الخلافة الراشدة فقد حافظ على مكانته السامية من التقيد بالتنظيم القضائى فى العهد النبوى، ومواجهة الظروف الجديدة التى وقعت فى عهد الخلافة الراشدة بسبب الفتوحات الكثيرة، واتساع رقعة الدولة الإسلامية.

أما فصل السـلطة القضـائية فقد تم فى عهد أميرالمؤمنـين عمربن الخطاب رضى اللّـه عنه، وقد أمر عمر بفصل أنواع الولايات بعضها عن بعض، وخص كل ولاية بشخص يتولى شؤونها، فأصبح للقضاء ولاية خاصة، وسلطة مستقلة فى بعض المدن والبلدان، كما أصدر عمر أمره بفصل أعمال القضاة عن أعمال الولاة، وعين القضاة فى عاصمة الدولة الإسلامية، وفى مدن الأمصار الكبيرة.

كان القضاة فى عهد الخلافة الراشدة مجتهدين، فينظرون فى نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية، فيعملون بها. فإن لم يجدوا فى تلك النصوص حكم الواقعة المعروضة عليهم، اجتهدوا رأيهم بعد الاستئناس بما قضى به أسلافهم، ثم أصدروا الحكم الذى وصل إليه اجتهادهم.

ويمكن أن نقول إنه قد ظهرت مصادر جديدة للقضاء الإسلامى فى هذه الفترة نتيجة للمنهج الذى التزمه القضاة، وصارت مصادرالأحكام القضائية هى: القرآن الكريم،والسنة النبوية، والإجماع، والقياس، والسوابق القضائية، والرأى الاجتهادى.

أما القضاء فى العهد الأموى فقد استقل عن السلطات الأخرى عند ماتولى معاوية الخلافة وتخلى عن ممارسة القضاء، وعين معاوية القضاة فى حاضرة الدولة الإسلامية بدمشق، وفوض إليهم السلطة القضائية، وخولهم الصلاحيات الكاملة فى الدعاوى، وسار ولاته فى الأمصار على هذا المنهج، وابتعد الولاة عن أعمال القضاء. وسار خلفاء بنى أمية على هذه الخطة طوال العهد الأموى، سواء فى عاصمة الدولة الأموية، أم فى سائر الأمصار والمدن والولايات.

وكانت مصادر الأحكام القضائية فى العهد الأموى هى نفس المصادرالتى كانت معروفة فى عهد الخلافة الراشدة، من الالتزام بالكتاب والسنة والإجماع والسوابق القضائية والرأى الاجتهادى.

وأما القضاء فى العهد العباسى فقد تميز بتعين المعالم الرئيسية له، واكتمال أجهزته، وظهور الاختصاصات الكاملة للمؤسسات القضائية المختلفة، ووضحت بشكل كامل مصادرالأحكام القضائية، وطرق الإثبات، وتنفيذ الأحكام. كما استحدث منصب قاضى القضاة لأول مرة فى عهد الخليفة العباسى هارون الرشيد ببغداد عام 170هـ، وأسند إليه أمرتعيين القضاة فى المدن والأمصارالمنتشرة فى المشرق والمغرب.

أما مصادرالأحكام القضائية فى العهد العباسى فكانت نفس المصادر المعروفة فى العهود السابقة، وهى: القرآن الكريم، والسنة النبوية، والإجماع، والسوابق القضائية، والرأى الاجتهادى، بالإضافة إلى قول الصحابى، والعرف، والقياس.

أيها السادة:

وإذا تتبعنا تاريخ القضاء الشرعى من العهد النبوى إلى يومنا هذا، وجدنا أن السلطة القضائية أصبحت بالتدريج سلطة مستقلة منذ العهد العباسى، لها اختصاصاتها وتنظيماتها المستقلة، وقد كان القضاة مفوضين لإقامة العدل بين الناس أجمعين، دون تدخل من أحد، ودون تمييز بين شخص وآخر.

أيها السادة:

يهمنا أن نشير إلى أن الشريعة الإسلامية لا زالت مصدرا أساسيا من مصادر التقنين فى معظم البلاد الإسلامية، لما لها من شمولية لكل نواحى الحياة من اجتماعية واقتصادية وسياسية، ولمرونتها وملائمتها لكل زمان ومكان. وجدير بالذكر فى هذا الصدد أن كثيرا من المفاهيم الأساسية التى تقوم عليها النظم الديمقراطية الحديثة من كون الشعبِ مصدرا للسلطات، وحفظٍ للحقوق الإنسانية، ومساواةٍ بين الناس، وحريةٍ فى التعامل، وحمايةٍ لحقوق الأقليات، كلها نابعة من المبادئ العامة للشريعة الإسلامية، ومقاصدها وقيمها الخالدة.

وختاما أدعواللّـه سبحانه وتعالى أن يوفق العلماء والقضاة والفقهاء والمفكرين المشاركين فى هذا المؤتمر فى الخروج منه بنتائج طيبة مفيدة، لتسير الأمة الإسلامية على ضوئها لإنارة مستقبلها وإعادة مجدها، حتى تتبوأ هذه الأمة مكانتها اللائقة بها بين الأمم. قال تعالى :  وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللَّـهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَـٰلِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَـٰدَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ  (سورة التوبة: 105)

والسلام عليكم ورحمة اللّـه وبركاته.